الأحد، 23 ديسمبر 2018

كيف يمكن للشفرة التي يستخدمها الدماغ للتعرف على الوجوه كشف أسرار الإدراك


١١ ديسمبر ٢٠١٨

مجلة نتشر إصدار  ٥٦٤ صفحة ١٧٦- ١٧٩
 المترجم : أبو طه/ عدنان أحمد الحاجي 

المقالة رقم ٤٠٥ لسنة ٢٠١٨

التصنيف: أبحاث الدماغ



11 December 2018

Nature 564, 176-179 (2018)

أطلقت دوريس تساو مسيرتها المهنية في فك رموز الوجه - ولكن خلال أسابيع قليلة في شهر سبتمبر ، عانت  من ضبط  العبارة بمفردها. وكانت تساو قد فازت للتو بجائزة مؤسسة ماك آرثر "للعباقرة"  ، وهي تشريف  يأتي مع أكثر من نصف مليون دولار لتوظفها في أبحاثها   لكنها أقسمت على السرية - حتى عندما أرسلت المؤسسة طاقم تصوير إلى مختبرها في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا Caltech في باسادينا. كانت مضطرة ومُحرجة في نفس الوقت ، كان عليها أن تخترع تفسيراً ، مع إبقاء تعابير وجهها تحت السيطرة.

 الجمع بين تصوير الدماغ والفيزيولوجيا الكهربية ساعد دوريس تساو على التعمق في دماغ الرئيسيات، المصدر: سام كومين لمجلة نتشر

فاز  عملها على الوجوه   بجوائز  وتصفيق (ثناء). وفي العام الماضي ، قامت تساو بكسر الشفرة التي يستخدمها الدماغ للتعرف على الوجوه من الاختلافات الضئيلة في الأشكال والمسافات بين الخصائص والحدة والقوام. بساطة التفشير  فاجأ وأعجب مجتمع علماء الأعصاب.

يقول توم مريسك-فلوغيل ، مدير مركز ساينزبوري ويلكوم لدراسات للدوائر العصبية والسلوك العصبي في جامعة  لندن كوليدج: "لقد أحدث عملها نقلة".

لكن تساو لا تريد أن تًذكر  كباحثة اكتشفت تشفير الوجه. وتقول: إنها وسيلة لتحقيق غاية ، وهي أداة جيدة في التعامل مع السؤال الذي يهمها حقًا: كيف يبني الدماغ نموذجًا كاملًا ومتماسكًا لما حوله  من خلال سد الفجوات في الإدراك؟ "هذه الفكرة لها صيغة رياضية أنيقة" ، كما تقول ، لكن من المعروف أنه من الصعب اختبارها. تساو لديها الآن فكرة عن كيف تبدأ.

إن طموحاتها في حل بعض أكثر الألغاز المستعصية في العقل ليست مفاجأة لعالمة الأعصاب، مارغريت ليفينغستون ، التي كانت مشرفة على رسالة الدكتوراه  لتساو طوال دراستها  في كلية هارفارد للطب في بوسطن ، ماساتشوستس. "  "تاسو لم تنحرف  عن مهمتها أبداً". "كانت هادئة ومركزة ، وتذهب  دائما على المسائل الكبيرة،" كما تقول

نشأت تساو في أسرة علمية. عملت والدتها كمبرمجة حاسوب وكان والدها باحث في  تنكلوجيا الرؤية الآلية (تعريف من خارج التص: تقنية تفتيش آلية تعتمد على التصوير وتُستخدم في تطبيقات منها التحكم في عمليات المصانع  وتوجيه الروبوتات، المزيد في مصدر  رقم  ١) . لقد هاجرت إلى الولايات المتحدة من تشانغتشو في الصين ، عندما كانت تساو في الرابعة من عمرها فقط ، "من أجل حياة أفضل والمزيد من الفرص" ، كما تقول.

تقول تساو: "ربما كان والدي هو السبب الرئيسي وراء دراستي  الإبصار  (الرؤية)  ، على الرغم من أنني أحاول إنكار ذلك". عندما كانت في المدرسة الثانوية ، جرت مناقشة  النظريات الرياضية لكيف  يعالج  الدماغ جوانب الرؤية. وتقول إنها وجدت أنها "رائعة بشكل لا يصدق". "لقد ساعد أبي أن يضع في رأسي فكرة أن الإبصار يتطلب شرحاً عميقا".

تخرجت بالرياضيات والبيولوجيا من معهد كاليفورنيا للتقنية قبل انضمامها إلى فريق ليفنغستون في عام ١٩٩٦ ، حيث درست في البداية طريقة إدراك الدماغ لعمق الإبصار.

شفرة (كود) الوجه
يجري مختبر ليفنغستون أبحاثاً على  قرود المكاك ، التي لها جهاز  بصري مماثل وهيكلية دماغية كالتي في البشر.  رؤية ما في محيطها  من خلال أي من عيني  الرئيسيات توجه  من  شبكية العين إلى القشرة البصرية ، والطبقات المختلفة التي تقوم بالمعالجة الأولية للمعلومات الواردة. في البداية ، تكون أكثر قليلا من بكسلات  pixels من الألوان الداكنة أو الساطعة ، ولكن في غضون ١٠٠  مللي ثانية ( واحد على عشرة من الثانية)  ، تذهب  المعلومات بسرعة هائلة عبر شبكة من مناطق الدماغ لمزيد من المعالجة لتوليد مشهد ثلاثي الأبعاد يمكن  به أن يدرك  بشكل واع مع وجود العديد من الأشياء تتحرك فيه.

كشفت دوريس تساو عن الجوانب الأساسية للأنظمة البصرية من خلال إراءة مئات الوجوه البشرية الى لقرود.المصدر : صورة توضيحية بقلم سام كومين لمجلة نتشر 


في معظم  عملها على بحث  الدكتوراه ، ركزت تساو على الطبقات الخارجية للقشرة البصرية ، حيث هي  أول ما تصل إليها المعلومات من الشبكية. تعلمت كيف تدخل أقطاباً كهربائية دقيقة - حساسة بدرجة كافية لتسجيل  إرسال الومضات الكهربائية  من خلايا فردية عندما تثار  من خلايا اخرى firing    في هذه المنطقة من أدمغة القرود . ولكن لمساعدتها على التعمق أكثر في القشرة البصرية ، قررت إضافة تصوير الدماغ إلى قائمتها. خرائط تنشيط الدماغ  الواسعة  التي يوفرها التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI تساعد  في توجيه تقنيات تسجيل أكثر دقة للخلايا الفردية. وكان القليل من  المختبرات في ذلك الوقت يقوم بتصوير أدمغة الحيوانات ، لكن فيم فاندوفيل ، الرائد في تصوير أدمغة القردة  بالرنين المغناطيسي الوظيفي في جامعة لوفين الكاثوليكية في بلجيكا ، ساعد تساو في إنشاء البنية التحتية اللازمة للقيام بالتصوير في بوسطن.

وأثناء تعلمها عن هذه التقنية ، أصبحت على دراية بالاكتشاف المفاجئ بإستخدام  الرنين المغناطيسي الوظيفي الذي قامت به باحثة الأعصاب نانسي كانويشر Kanwisher من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا المجاور. تعرفت  كانويشر على  منطقة صغيرة في  دماغ  البشر تضيء كلما أُري   الشخصُ  صورة للوجه ، ولكن ليس الأمر كذلك عندما  أُري  صور لأشياء أخرى كصورة بيت  أو صورة ملعقة.

وتوصلت تساو إلى أنه إذا وجد نفس جهاز  التعرف على الوجه في القردة ، فبإمكانها ( أي تساو)  استخدام أقطابها الحساسة لفحص العصبونات الداخلة في هذه العملية  وتستنبط   كيف تقوم بوظيفتها،

تعاونت مع وينريش فرايوالد ، الذي كان آنذاك طالب  مابعد الدكتوراة في مختبر كانويشر ، وبدأت سلسلة من التجارب التي تجمع بين الرنين المغناطيسي الوظيفي وتقنيات تسجيل الخلايا الفردية  لسبر أغوار  القشرة الصدغية السفلية inferior temporal (IT) cortex, ، وهي منطقة الدماغ التي تعرفت عليها كانويشر. على مدى ثمان  سنوات  أو نحو ذلك ، حقق فريفيالد ، Freiwald وتساو والمتعاونون معهما  عدداً من الاكتشافات المهمة. ممرنين صوراً  أمام قردة المكاك ، قاموا بتخطيط الخلايا الفردية التي أرسلت  ومضات كهربائية استجابة  لرؤية  وجه إنسان أو قرد. سمح لهم ذلك بتحديد ستة مِسَاحَات صَغِيرَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ عَمَّا حَوْلَهَا على كل جانب من الدماغ ، موزعة على طول القشرة الصدغية السفلية . لو قام الباحثون بتحفيز أي من هذه المناطق كهربائياً  ، لأضاءت البقية. يقول فريوالد ، الذي يعمل الآن في جامعة روكفلر في مدينة نيويورك ، إن رؤية  مناطق  الوجه هذه  تعمل معاً في شبكة للمرة الأولى "كانت لحظة ممتعة".

كما اكتشف فريفالد Freiwald و تساو أن هذه المناطق  تنحو إلى أن تكون متخصصة. من خلال إراءة  القرود سلسلة من الوجوه الكرتونية بتفاصيل مختلفة كالشعر ، أو الأنف أو أحداق (عيونها) مفقودة ، تمكنا الباحثان من  تحديد الخلايا التي ترسل ومضات  استجابة لسمات وجه معينة. سيزداد معدل إرسال الومضات  في الخلية بحسب مدى الإفراط في  السمة  ، وهي خاصية تعرف باسم ضبط   شكل المنحدر ، والذي  يبين أنها أساسية لتشفير الوجه. على سبيل المثال ، قد ترسل  الخلية ومضات ببطء  استجابة   لعينين قريبتين، ولكن بسرعة إلى عينين بعيدتين عن بعضهما البعض. وعندما أرى الباحثون وجوهًا حقيقية  الى القرود تنظر في اتجاهات مختلفة ، اكتشف الباحثون أن الخلايا الموجودة في المناطق  الأقرب إلى القشرة البصرية تميل إلى ارسال ومضات كهربائية استجابة لإتجاهات  orientations محددة لأي وجه ، في حين أن تلك الموجودة في أعمق منطقة استجابت إلى  بعض الوجوه الفردية ، بغض النظر عن اتجاهاتها.

محرك الهلوسة
لكن تساو تريد الآن  معالجة حتى الصورة الأكبر لكيف يستوعب  الدماغ كامل المحيط ( ما حوله) ، بدلاً من مجرد فك تشفير الأشياء. وهذا يعني معرفة  ليس فقط كيف يعالج المعلومات البصرية وغيرها من المعلومات الحسية التي تتدفق إلى الدماغ ، ولكن أيضًا كيف تؤثر  المعرفة عالية المستوى ، التي اكتسبت خبرة عميقة في الدماغ ، على الإدراك. وتقول: "فكّروا في كيف نعرف  بأن وجود فقاقيع  باهتة  على بحيرة من المرجح أن تكون هناك بطة".

فالدماغ ليس مجرد سلسلة من غرابيل خاملة تلتقط الوجوه ، أو الطعام ، أو البط ، بل إنها مجرد محرك مهووس يولد نسخة من الواقع  بحسب  أفضل نموذج داخلي حالي للمحيط . أفكارها اعتمدت  على نظرية الاستدلال البايزى Bayesian inference theory (للتعريف، راجع المصدر ٢). وتقول إنه من خلال الجمع بين الإدراك والمعرفة العالية المستوى ، يمكن للدماغ الوصول إلى أفضل فهم ممكن للواقع.

إحدى الآليات الممكنة هي نظرية  نوقشت طويلاً تسمى المعالجة التنبؤية predictive processing، والتي تجذب حاليا الاهتمام بين علماء الأعصاب. تؤكد المعالجة التنبؤية أن الدماغ يعمل من خلال التنبؤ بكيف يتغير محيطه المباشر بالمللي ثانية (واحد على الألف من الثانية) ، ومقارنة هذا التنبؤ بالمعلومات التي يتلقاها من خلال الحواس المختلفة. يستخدم أي عدم تطابق - "خطأ التنبؤ" - لتحديث نموذج محيطه.

مصادر من خارج النص .
١-https://en.m.wikipedia.org/wiki/Machine_vision

٢-https://ar.m.wikipedia.org/wiki/استدلال_بايزي

المصدر الرئيسي: 
https://www.nature.com/articles/d41586-018-07668-4?utm_source=briefing&utm_campaign=7690d254ab-briefing-dy-20181212&utm_medium=email&utm_term=0_c9dfd39373-7690d254ab-43731365


للمواضيع المترجمة السابقة يرجى زيارة المدونة على صفحتنا على الإنترنت على هذا العنوان؛
 https://sites.google.com/view/adnan-alhajji


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق